محي الدين اللباد: ولد في القاهرة عام 1940؛ درس التصوير الزيتي في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة 1957- 1962. عمل رساماً للكاريكاتير أثناء دراسته الثانوية، ثم التحق رساماً بمجلة "روزاليوسف" و"صباح الخير" قبل أن ينهي دراسته الجامعية.
بعد تخرجه مباشرة، عمل رساماً ومؤلفاً لكتب الأطفال في "دار المعارف"، وفي مجلة "سندباد" التي أصدرتها الدار فيما بعد، وشارك في تأسيس العديد من المجلات ودور النشر. صدر له مجموعة من الكتب في مصر وبلاد عربية أخرى، نالت عدداً من الجوائز المحلية والعربية والدولية، ونشر بعضها مترجماً بعدة لغات أجنبية. عمل مديراً فنياً ومصمماً جرافيكياً للعديد من دور النشر؛ كما صمم العديد من الصحف والمجلات العربية، والملصقات الثقافية. شارك كعضو لجنة تحكيم في عدد من المسابقات المحلية والدولية.
الشيخشاب
حوار مع محي الدين اللباد
ما الدافع وراء انشغالك المبكر بفن الجرافيك، رغم حداثة هذا المجال نسبياً على المشهد الفني؟
يعود ذلك إلى فترة الطفولة؛ فلم أكن استمتع بمشاهدة الأعمال الفنية المعقدة حرفياً قبل سن العاشرة. أتذكر حين كنت أتصفح مجلة الهلال في تلك الفترة، وأشاهد النسخ المصورة للوحات فنانيّ عصر النهضة والركوكو والباروك، كانت هذه اللوحات كثيراً ما تصيبني بضجر لم أكن أعي مصدره، لكن وفي ذات الوقت كان اهتمامي يتحول نحو رسائل بصرية أبسط بكثير، أقرب إلى واقعنا اليومي المعاش.
اتجه اهتمامي إلى العلامات التجارية للمنتجات المتداولة آنذاك: باكو زهرة الغسيل ماركة زوزو، زجاجة كوكاكولا، طوابع البريد، علب الكبريت، ماركات السجائر، شخصية ميشلان، وغيرها من منتجات ارتسمت علاماتها في وجداني الذاتي، لتمثل فيما بعد ذاكرتي البصرية الأولى. أتذكر أيضاً اهتمامي بطريقة كتابة عناوين الأخبار في الصحف، وما كانت تحمله من رسائل بصرية قوية باللون الأسود، حيث كانت تكتب بخطوط يدوية سخية وبسيطة على ورق الجرائد الخشن.
ما الذي تمثله لك شخصية "ميشلان" ، والتي كانت حقاً شخصية مثيرة لي أيضاً على وجهٍ شخصي؟
مثلت لي الكثير، فهو بالنسبة لي شخصية خيالية ومرحة، كأنه خارجاً من كتاب للأطفال. بل وكان الملك فاروق نفسه بمظهره المبهرج المبهر يمثل لي الكثير من نفس المنطلق أيضاً، فقد كان بالنسبة لي شخصية روائية ملهمة من شخصيات قصص الأطفال، أتذكر صوره الأولى والتي كانت تظهر على المطبوعات الملكية، والعملات، والطوابع، وحتى على بعض أغلفة المنتجات المحلية: بزته الكحلية من القطيفة الناعمة، والمطعمة بزخارف من اللونين الأحمر والذهبي، شارباه، نظارته السوداء، كل ما إلى ذلك من تفاصيل كانت تتداعى إلى بصري لتصوره لي كدمية رائعة الزينة.
أتذكر أيضاً أسماء سحرية لا معنى لها لمنتجات كانت متداولة في ذاك الحين. كولونيا "خمس خمسات" على سبيل المثال...
أعتقد أن شعار "خمس خمسات" كان يمثل علاقة سحرية بالفعل، فهنالك تبادليات رقمية عادةً ما تستخدم في الشعوذة، تكتب بأشكال معينة على شبكة أفقية ورأسية، لتستمد من ذلك الترتيب تأثيرها السحري، ليس من المستبعد أن تكون تلك هي الفكرة وراء الاسم وشكل الشعار.
استمتع بهذا الحديث معك عن تفاصيل خبراتك البصرية الثرية، ولكن يحضرني سؤال باتجاه آخر عن مشاريعك الحالية. هل يعد "محي الدين اللباد" لعمل جديد؟
هناك العديد من المشروعات التي طالما تشوقت لتنفيذها، ولكنني على وعيّ تام بعدم قدرتي على اختيار مجال واحد للعمل فيه، فقد اخترت الرسم، وتصميم الجرافيك، والكاريكاتير، والكتابة –من كتابة صحفية إلى تأليف كتب الأطفال– وكنت مدركاً منذ البداية لعجزي عن تغليب مجال منهم على الآخر، حيث كانت تلك هي معركة سن الثلاثين، فلم يكن يشغلني وقتها سوى محاولة اكتشاف الشخصية الثابتة المحورية في أعمالي برغم تنوع مجالاتها، فستجد بعض أفكار الكاريكاتير السياسى مستمدة من قصص الأطفال، وعلى العكس، اعتمدت كثيراً على أفكار ومداخل جرافيكية لرسم الكاريكاتير السياسي.
لا أعرف ما مدى صواب اختياراتي من عدمها، لكنني أعلم أنني أضعت الكثير من الوقت في مشاغل غير إنتاجية. الآن.. أتطلع خلفي إلى ماضي الطفولة والشباب، ثم إلى العمر الحالي. أتطلع إلى ما حلمت به، وما أنجزته بالفعل، وما يمكن أن أنجزه في ظل الظروف الراهنة، وفي هذا السن، وبهذه الخبرة المتراكمة، وأجد أن أقرب المشروعات التي أريد أن أواصلها، والتي قد بدأت العمل عليها بالفعل منذ فترة، هي سلسلة الكتب التي أقوم بتأليفها وتصميمها لفئة الفتيات والفتيان (المراهقون فوق سن الحادية عشر)، أعمل الآن على إصدار كتاب يضاف إلى نفس السلسلة عن الخط العربي، كنت قد بدأت في تنفيذه منذ أربعة أعوام، ومازال طور التجهيز.
فترة أربع سنوات من العمل المتواصل؟
لا.. ليس لهذه الدرجة؛ لقد حمستني حفيدتي "ليلى" ( 6 سنوات ونصف ) منذ فترة على بدء البحث في موضوع الخط العربي بعد اكتشافي لقدراتها الذهنية على فهم ما تقرأه، وقد قمت بالفعل بتقسيم المادة التي أعددتها إلى مجموعة مقالات أعمل على تنقيحها من حين لآخر، مما أطال فترة التجهيز لإتمام العمل، وأعتقد الآن بأنني أوشكت بالفعل على الانتهاء من تصميم النموذج المبدئي للكتاب، ويمكنني أن أطلعك على بعض المسوّدات المتعلقة بذلك فيما بعد.
أعتقد أن الفكرة مثيرة جداً، فالآن وبعد اقتحام الكمبيوتر الحتمي لواقع هذه الفئة العمرية، فقد الخط العربي الكثير من مدلولاته البصرية المتفردة.
الأمر يرجع إلى ما قبل ذلك بكثير من وجهة نظري، فقد بدأ ذلك -على ما أظن- مع اختراع قلم الحبر الجاف في شكله الحالي، وأصبحت خطوط الأحرف المكتوبة –منذ ذلك الحين– ذات سمك واحد على السواء، مما أفقد الخط العربي الكثير والعظيم من جمالياته، والتي كانت راسخة في ذهن المتلقي ووجدانه سابقاً.
قدمت في هذا الكتاب مخطوطات لعقود بيع وشراء تم كتابتها بخط اليد وتعود إلى الفترة ما بين الثلاثينيات والخمسينيات من القرن الفائت، أوراق عثرت عليها في خزانات قديمة للعائلة، وقد أصبت بدهشة شديدة لما كان عليه الخط المكتوب من إبداع وروعة، فقد قام بكتابتها أشخاص عاديون، وهذا أكثر ما أصابني بالدهشة، فقد وجدت أن معظم الناس في هذه الفترة تكتب بنفس الخط، هو نفس خط الرقعة الثابت، قبل أن يقوم القلم الجاف بإضفاء جفافه وميوعته على الجماليات الفطرية لتلك الممارسة.
أتذكر أيضاً حصص المشق (تقليد نماذج خط مطبوعة) بالمرحلة الابتدائية، وما كان لها من طقوس: سن قلم البسط المشطوف، إبريق الحبر في يد الفراش يعبئ به المحابر، حيث كان لكل محبرة مكاناً غائراً في الطاولة...... كم كان ذلك ممتعاً وأصيلاً
.........
هل تعلم كيفية ملء المحبرة استعداداً للكتابة؟
!!
إذا سكبت الحبر مباشرةً في المحبرة، فلن تستطيع الكتابة بشكل سليم باستخدام القصبة، فكل مرة ستحاول فيها فعل ذلك سيتشرب السن بما يزيد عن حاجته من الحبر، بما لا يسمح بالتحكم في سمك الخط، ولذلك فقد كنا نضع لفافة من خيط الحرير في المحبرة قبل سكب الحبر، ثم نفرغ الزائد بعدما تتشرب لفافة الخيط بما يكفيها منه، حينها تستطيع التحكم في مقدار الحبر اللازم لتشبع سن القصبة.
ما رأيك في الخطوط العربية المستخدمة في الصف الإلكتروني؟
أعتقد أننا لم نجد بدائل إلكترونية مناسبة للخطوط العربية في مجملها حتى الآن، على الرغم من وجود بعض التطبيقات التي وصلت إلى درجة عالية من جودة التصميم والحرفية، وكان السبب في ذلك من وجهة نظري هو اكتشاف مداخل متطورة للتعامل مع بعض أنواع الخطوط العربية التي تحتمل التبسيط وإعادة صياغة قوانين كتابتها. فلا نستطيع القول بأن كل الخطوط العربية يمكن تحويلها إلى نماذج جاهزة إلكترونية نستطيع استخدامها في التصميم كبدائل للنماذج المخطوطة، فالبعض منها فقط يحمل من بساطة التكوين ما يسمح لنا بإيجاد بدائل إلكترونية له.
هل اهتممت بحرفة تصميم الخطوط العربية الإلكترونية؟
ليس بشكل مباشر؛ ولكني عملت كثيراً على مشاريع من هذا النوع، عن طريق تجميع بعض أشكال الحروف التي أكتبها بشكل يدويّ على الملصقات أو أغلفة الكتب، وترتيبها لتكوين مجموعات خطية يمكن برمجتها إلكترونياً، وقد ساعدني في ذلك بعض العاملين في هذا المجال، والذين يملكون من الخبرة في كيفية إعداد مجموعات الخطوط الإلكترونية ما لا أملكه، وقد قمنا بالفعل ببرمجة بعض الخطوط إلكترونياً، ولكنها لم تكتمل بشكل نهائي، بالرغم من وصول بعضها إلى مراحل متقدمة نسبيا.
ربما تفتقد إلى وجود مجموعة عمل يعزى لها القيام بتنظيم تلك المشروعات العديدة المؤجلة، وإعادة إحياءها.
ربما.. لا أخفي عليك، فقد قمت بعدة محاولات لفعل ذلك دون جدوى. يمكن أن أكون من الأشخاص الذين يصعب التعامل معهم بعض الأحيان، أو ربما لم أجد من الأشخاص من يستطيع مشاركتي لإتمام هذه المشروعات التي أتمنى تحقيقها، فلقد ارتبطت عاطفياً وأخلاقياً ووجدانياً بالعمل في هذا المجال الذي اخترته، وأعددت نفسي للخدمة فيه. مما جعلني أقتنع الآن بدافع جديد، هو أن أتحاور بعملي الذي أنجزه مع زملاء المهنة من جيلي، ومن الأجيال التالية. وأن أحرض صبية وصبايا صغار على سلوك الطريق نفسه، ليكونوا من أبناء هذه الصنعة، فربما يستطيع هؤلاء القادمون مستقبلاً أن يصححوا الطريق، وأن يؤسسوا للمهنة بشكل أكثر تأثيراً، وفي ظروف أفضل.
هل تستخدم الكمبيوتر بشكل أساسي في عملك، أم هو بالنسبة لك أداة لاختصار الوقت اللازم لتنفيذ تصميماتك؟
لا استخدم الكمبيوتر حين أحتاج لعمل يستطيع غيري أداءه بشكل أفضل مني، أو بالأحرى لم أجد يوماً حاجة إلى استخدامه في عمل اعتدت على الاستمتاع بتنفيذه على الورق.
أتعجب لبعض الرسامين الذين يستخدمون الكمبيوتر لعمل تصميماتهم المحاكية للرسوم اليدوية، وأحترم كثيراً أعمال جرافيكية صممت باستخدام الكمبيوتر واستغلت لغته بذكاء. ولا أجد أية جماليات في تصميمات أخرى عديدة، استخدم فيها الكمبيوتر كمجرد معالج للصور كما يحدث في الأغلب.
ما رأيك في الاستخدام المفرط للافتات البلاستيكية في تنفيذ اللوحات الإعلانية، وهل ترى أنها أثرت بشكل سلبي على الذوق العام؟
اللافتات المصنعة من اللدائن البلاستيكية، وأساليب الطباعة السريعة منخفضة التكلفة، كان يجب أن تجد لها مكاناً في مجال الدعاية في ظل الظروف العصرية الحالية. وأعتقد أن دورها الإيجابي كان له أن يتحقق بشكل كامل إذا ما توفر لدينا وعياً جمالياً مشترك بمفهوم "الذوق العام"، فقد كنت أتوقع بعد انتشار استخدامها وتنوع اساليبه، أن تتيح الفرصة بشكل أكثر موائمة لإفراز أفكاراً خلاقة ومتجددة، تعبر عن هويتنا المصرية والعربية، ولكن، أدى سوء استخدامها كوسيط بديل، وعدم إعداد التصميمات الملائمة لطبيعتها الخاصة، واللجوء إلى الزيادات غير الضرورية والنوافل، إلى اضفاء حالة من الضمور المستمر على مظهرها، بالرغم من مقوماتها العملية التي تتناسب واحتياجات مستخدميها.
ما تقديرك للذوق الفني العام في الوطن العربي حالياً من الناحية البصرية؟
معظم الرسائل البصرية المحلية الحالية تفتقر بشكل أساسي إلى المعنى، بما يحولها في الأغلب إلى رسائل مفككة، غير مترابطة. ولا يمكن أن نتخيل ما سيساهم به هذا التردي على المستوى البصري في إحداث خلخلة، وحالة من التشتت الذهني و تآكل المضمون، وإحساس بعدم الجدوى على أجيال حالية ولاحقة. فالطفل الذي يتلقى علامات الاتصال البصري السائدة الآن يجعلني أفكر كثيراً في كيفية بنائه لذاكرته البصرية، وما لها عليه من تأثير سلبي في مراحل متقدمة من عمره.
هل نحن بحاجة فعلاً إلى أعمال تمثل هويتنا المحلية وتؤكد على فرديتها؟ وما إمكانية القيام بذلك بأسلوب غير مبتذل من وجهة نظرك؟
ظهرت دعوات كثيرة في الآونة الأخيرة ومسابقات رصدت لها الجوائز لخلق شخصيات كرتونية محلية بديلة للأجنبية. فعلى سبيل المثال، انشغل الإعلام منذ فترة ليست ببعيدة بالدعوة الإيرانية إلى خلق دمية بديلة لدمية (باربي) الشهيرة، والتي تحمل تأثيرات الغرب السلبية على الأطفال الإيرانيين. ولم تتوقف المسألة عند الدعوة، بل جرى تصميم دمية إيرانية، ذات سمات وملامح محلية، ووزعت الدمية على المتاجر ومنافذ البيع، ولكن لم تفلح الدمية المقررة في أن تدفع الناس وأطفالهم إليها.
والملفت للنظر –والذي يجب أن ينتبه إليه أصحاب الدعوات– هو أن الشخصيات الكرتونية ذائعة الصيت، والتي انتشرت في أنحاء العالم، لم تقرر سلفاً، ولم تصمم كشخصيات "وطنية" أو "عالمية" لتكتسح وطناً أو دولة. فقد نالت كل الشخصيات الكرتونية المرموقة شهرتها وذيوعها عن طريق الاختيار الحر المباشر للجمهور، أي بالانتخاب الطبيعي. وتأثر انتشار تلك الشخصيات دائماً بالظروف الإقتصادية، والسياسية، والإجتماعية، والثقافية للفترة التي ظهرت فيها. فلم يكن أحداً ممن ابتكروا أو قاموا بتصميم شخصيات مثل "ميكي ماوس"، "سنوبي"، و"دونالد داك" يعلم مقدماً بالنجاح الساحق الذي ستحققه تلك الشخصيات. كما لم تكن صورة أي شخصية منها في البداية على الصورة التي نعرفها بها الآن. "دونالد داك" على سبيل المثال كان شخصية ثانوية (كومبارس)، يظهر خلف شخصية كرتونية بطلة تمثل دجاجة، وتم تصعيد ذكر البط تدريجياً بناء على طلب الجمهور، إلى أن احتل الواجهة، وتوارت الدجاجة.
لا زلنا نفكر في موضوع مثل الشخصيات الكرتونية وغيره من الموضوعات بطريقة "التعيين"، وليس بطريقة "الانتخاب الحر المباشر".
أجرى الحوار/ أحمدفولة
القاهرة في 25 مايو 2008